سورة الشورى - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}
{حم* عسق} سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني، يقول: سمعت شيخي يقول: سمعت أبا بكر المؤمن يقول: سألت الحسين بن الفضل لِمَ قطّع {حم* عسق} ولم تقطّع {كهيعص} [مريم: 1]، و{المر} [الرعد: 1] و{المص} [الأعراف: 1]؟.
قال: لكونها من سور أوائلها {حم}، فجرت مجرى نظائرها، قبلها وبعدها، وكان {حم} مبتدأ، و{عسق} خبره، ولأنّها آيتان، وعدت أخواتها الّتي كتبت موصولة آية واحدة.
وقيل: لأنّ أهل التأويل لم يختلفوا في {كهيعص} وأخواتها، إنّها حروف التهجي لا غيره، وإختلفوا في {حم}، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلاً، وقالوا، معناه {حم}، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فأمّا تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه: إنّ أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي، أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثني أحمد، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج، عن أرطأة بن المنذر، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: {حم* عسق} قال: فأطرق ثمّ أعرض عنه، ثمّ كرّر مقالته، فلم يجيبه بشيء، وكرّر مقالته، ثمّ كرّر الثالثة، فلم يجيبه شيئاً، فقال له حذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت لِمَ كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته، يقال له: عبد الاله أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم انقطاع دولتهم ومدّتهم، بعث الله تعالى على احداهما ناراً ليلاً، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلّها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلاّ بياض يومها ذلك حتّى يجمع فيها كلّ جبّار عنيد منهم، ثمّ يخسف الله تعالى بها وبهم جميعاً، فذلك قوله تعالى: {حم* عسق}. يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء {حم* عسق} عدلاً منه، سين سيكون فتنة، قاف واقع بهما بهاتين المدينتين.
ونظير هذا التفسير ما أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن مخلد، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرّحمن، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصّراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض، تجبى إليها الخزائن، يخسف بها، وقال مرة: يخسف بأهلها، فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة».
وذكر عن ابن عباس إنّه كان يقرأ {حم سق} بغير عين، ويقال: إنّ السين فيها كلّ فرقة كائنة، وإنّ القاف كلّ جماعة كائنة، ويقول: إنّ علياً إنّما كان يعلم الفتن بهما، وكذلك هو في مصحف عبد الله {حم سق}.
وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: {حم* عسق}.
فقال: (ح) حلمه، (م) مجده، (عين) علمه، (سين) سناه، (ق) قدرته، أقسم الله تعالى بها.
وفي رواية أبي الجوزاء إنّ ابن عباس، قال لنافع: (عين) فيها عذاب، (سين) فيها مسخ، (ق) فيها قذف. يدلّ عليه ما روي في حديث مرفوع إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، فقيل له: ما هذه الكآبة يارسول الله؟ قال: «أخبرت ببلاء ينزل في أمتي. من خسف ومسخ وقذف، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال».
وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: (ح) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، ثمّ تُقضى إلى العرب، ثمّ تُقضى إلى العجم، ثمّ تمتد إلى خروج الدجال.
وقال عطاء: (ح) حرب في أهل مكّة يجحف بهم حتّى يأكلون الجيف وعظام الموتى، (م) ملك يتحول من قوم إلى قوم (ع) عدو لقريش قصدهم، (س) سيء يكون فيهم، (ق) قدرة الله النافذة في خلقه.
وقال بكر بن عبد الله المزني: (ح) حرب تكون بين قريش والموالي، فتكون الغلبة لقريش على الموالي، (م) ملك بني أُمية، (ع) علو ولد العبّاس، (سين) سناء المهدي (ق) قوة عيسى عليه السلام حين ينزل، فيقتل النصارى ويخرب البيع.
وقال محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلاّ الله مخلصاً له من قلبه، وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير: (ح) من رحمن، (م) من مجيد، (عين) من عالم، (سين) من قدوس، (ق) من قاهر.
السدي: هو من الهجاء المقطع، (عين) من العزيز، (سين) من السلام، (ق) من القادر.
وقيل: هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم (فالحاء) حوضه المورود، و(الميم) ملكة الممدود، و(العين) عزه الموجود، و(السين) سناؤه المشهود، و(القاف) قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة إلى المعبود.
وقال ابن عباس: ليس من نبيّ صاحب كتاب إلاّ وقد أوحيت {حم* عسق} إليه، فلذلك، قال: {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ} قرأ ابن كثير بفتح الحاء ومثله روى عباس، عن ابن عمرو ورفع الاسم بالبيان، كأنّه قال: يوحي إليك.
قيل: من الّذي يوحي؟ قال: الله، وهي كقراءة من قرأ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور: 36] بفتح الباء، الباقون بكسره.
{وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} وقال مقاتل: نزل حكمها على الأنبياء عليهما السلام {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلي العظيم * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي من عظمة الله وجلاله فوقهنّ.
قال ابن عباس: تكاد السّماوات كلّ واحدة منها تتفطّر فوق الّتي تليها من قول المشركين، {اتخذ الله وَلَداً}: نظيره قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90-91]. {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} من المؤمنين بيانها ويستغفرون للَّذين آمنوا {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم}.
قال الحكماء: وعظّم في الإبتداء، ثمّ بشّر وألطف في الإنتهاء.
{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} يحفظ أعمالهم ويحصي عليهم أفعالهم ليجازيهم بها {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} إن عليك إلاّ البلاغ. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى} مكّة، يعني أهلها. {وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي بيوم الجمع. {لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ} أي منهم فريق {فِي الجنة} فضلاً وهم المؤمنون. {وَفَرِيقٌ فِي السعير} عدلاً وهم الكافرون.
أخبرنا الإمام أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عثمان سعيد ابن عثمان بن حبيب السوحي، حدثنا بشر بن مطر، حدثني سعيد بن عثمان، عن أبي راهويه جدير بن كريب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفضّل عبد الله على أبيه أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل حيّ بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قابضاً على كفيه ومعه كتابان، فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟» قلنا: لا يارسول الله.
فقال للّذي في يده اليمنى: «هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنّة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة»، ثمّ قال للّذي في يساره: «هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزايد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة». فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل؟، إذ قال: «إعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وأن عَمِلَ أي عَمَل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عَمِلَ، أي عَمَل ثمّ قال: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} عدل من الله تعالى».


{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}
{وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملّة واحدة. {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون} الكافرون. {مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فالله هُوَ الولي} لا سواه. {وَهُوَ يُحْيِي الموتى} مجازه: لأنّه يحيي الموتى. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} في الدين. {قَدِيرٌ * وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ} في الدين. {فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} حلائل وإنّما قال: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} لأنّه خلق حواء من ضلع آدم {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ} يخلقكم ويعيشكم {فِيهِ} أي في الرحم، وقيل: في البطن، وقيل: في الروح، وقيل: في هذا الوجه من الخليقة.
قال مجاهد: نسلاً بعد نسل، ومن الأنعام، وقيل: {فِي} بمعنى الباء، أي يذرؤكم فيه، قال ابن كيسان: يكثركم.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} المثل صلة ومجازه: ليس كهو شيء، فأدخل المثل توكيداً للكلام، كقوله: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وفي حرف ابن مسعود، {فإن آمنوا بما أمنتم به} وقال أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل *** يغشاهم مطر منهمر
أي كجذوع، وقال آخر سعد بن زيد:
إذا أبصرت فضلهم *** كمثلهم في النّاس من أحد
وقال آخر:
ليس كمثل الفتى زهير *** خلق يوازيه في الفضائل
وقيل: الكاف صلة مجازه: ليس مثله، كقول الراجز:
وصاليات ككما يُؤَفَيْنْ ***
فأدخل على الكاف كافاً تأكيداً للتشبيه، وقال آخر:
تنفي الغياديق على الطريق *** قلص عن كبيضة في نيق
فأدخل الكاف مع عن.
{وَهُوَ السميع البصير * لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} وهو أول أنبياء الشريعة.
{والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} فاختلفوا في وجه الآية، فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأخوات والأمهات والبنات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبياً إلاّ أوصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاقرار لله بالطاعة. فذلك دينه الذي شرع لهم، وهي رواية الوالي عن ابن عباس، وقيل: الدين التوحيد، وقيل: هو قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} بعث الأنبياء كلّهم بإقامة الدّين والأُلفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة. {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ} من التوحيد ورفض الأوثان. ثمّ قال عزّ من قائل: {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} فيستخلصه لدينه.
{وَمَا تفرقوا} يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب. دليله ونظيره في سورة المُنفكّين {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} [البينة: 4].
{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} من قبل بعث محمد وصفته. {بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} تأخير العذاب.
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو يوم القيامة. {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بالعذاب. {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} يعني من بعد الأمم الخالية، وقال مجاهد: معناه من قبلهم أي من قبل مشركي مكّة وهم اليهود والنصارى. {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ} أي فإلى ذلك الّذين أوتوا الكتاب. {فادع} كقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي إليها {واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} اثبت على الدين الذي به أمرت {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أن أعدل أو كي أعدل، كقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71].
قال ابن عباس: لأسوي بينكم في الدّين، وأؤمن بكلّ كتاب وكلّ رسول، وقال غيره: لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء. قال قتادة: أُمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتّى مات، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض، وذكر لنا إنّ داود عليه السلام، قال: ثلاث من كنّ فيه فهو الفائز: القصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، والحسنة في السرّ والعلانية، وثلاث من كنّ فيه أهانته: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأربع من أعطيهنّ، فقد أعطي خير الدّنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة.
{الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ} لا خصومة. {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} نسختها آية القتال. {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} لفصل القضاء. {وَإِلَيْهِ المصير * والذين يُحَآجُّونَ} يخاصمون. {فِي الله} في دين الله نبيه. {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أي من بعد ما استجاب له النّاس، فاسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته، وقيام حجته. {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} باطلة زائلة. {عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قال مجاهد: نزلت في اليهود والنصارى. قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحقّ.
{الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} أي العدل عن ابن عباس وأكثر المفسرين. مجاهد: هو الّذي يوزن به، ومعنى إنزال الميزان: إلهامه الخلق للعمل به، وأمره بالعدل والإنصاف، كقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [الأعراف: 26].
وقال علقمة: الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازها الوقت، وقال الكسائي: إيتائها قريب.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} ظنًّا منهم إنها غير جائية. {والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفون منها. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ * الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} قال ابن عباس: حفي بهم. عكرمة: بارّ بهم. السدي: رقيق. مقاتل: لطيف بالبر والفاجر منهم، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم. القرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة.
قال الخوافي: غداً عند مولى الخلق، للخلق موقف يسألهم فيه الجليل، فيلطف بهم الصادق في الرزق من وجهين: أحدهما: إنّه جعل رزقك من الطيبات، والثاني: إنّه لم يدفعه إليك بمرة واحدة، وقيل: الرضا بالتضعيف.
الحسين بن الفضل: في القرآن وتيسيره.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عاد البغدادي يقول: سُئل جنيد عن اللطيف، فقال: هو الّذي لطف بأوليائه حتّى عرفوه، فعبدوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.
وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا أيس من الخلق، توكل عليه ورجع إليه فحينئذ يقبله ويقبل عليه، وفي هذا المعنى أنشدنا أبو إسحاق الثعلبي، قال: أنشدني أبو القاسم الحبيبي. قال أنشدني أبي، قال: أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهّاب الثقفي:
أمر بافناء القبور كأنّني *** أخو فطنة والثوب فيه نحيف
ومن شق فاه الله قدّر رزقه *** وربّي بمن يلجأ إليه لطيف
وقيل: اللطيف الّذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليه المثالب، وقيل: هو الّذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الّذي يجبر الكسير، وييسر العسير، وقيل: هو الّذي لا ييأس أحد في الدنيا من رزقه، ولا ييأس مؤمن في العفو من رحمته.
وقيل: هو الّذي لا يخاف إلاّ عدله، ولا يرجى إلاّ فضله، وقيل: هو الّذي يبذل لعبده النعمة، فوق الهمّة ويكلفه الطاعة دون الطاقة، وقيل: هو الّذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الّذي لا يرد سائله ولا يؤيّس آمله، وقيل: هو الّذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الّذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل: هو الّذي يعين على الخدمة، ثم يكثر المدحة، وقيل: هو الّذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجاً، وجعل الصراط المستقيم لها منهاجاً، وأنزل عليهم من سحائب بره ماءاً ثجاجاً.
{يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} كما يشاء من شاء موسعاً، ومن شاء مقتراً، ومن شاء قليلاً ومن شاء كثيراً، ومن شاء حلالاً، ومن شاء حراماً، ومن شاء في خفض ودعه، ومن شاء في كد وعناء، ومن شاء في بلده ومن شاء في الغربة، ومن شاء بحساب ومن شاء بغير حساب.
{وَهُوَ القوي العزيز * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} يعني يريد بعمله الآخرة. {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} بالتضعيف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا} يعني يريد بعمله الدّنيا {نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ}.
قال قتادة: يقول: من عمل لآخرته نزد له في حرثه، ومن آثر دنياه على آخرته، لم يجعل الله له نصيباً في الآخرة إلاّ النّار، ولم يصب من الدّنيا إلاّ رزق قد فرغ منه وقسم له.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن إدريس، حدثنا سويد بن نصير، أخبرنا عبد بن المبارك عن أبي سنان الشيباني، إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الأعمال على أربعة وجوه: عامل صالح في سببيل هدى يريد به دنيا، فليس له في الآخرة شيء، ذلك بأنّ تعالى، قال: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] الآية، وعامل الرياء ليس له ثواب في الدّنيا والآخرة إلاّ الويل، وعامل صالح في سبيل هدى يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، فله الجنّة في الآخرة، معها نعاته في الدّنيا، وعامل خطأ وذنوب ثوابه عقوبة الله، إلاّ أن يعفوا فإنّه أهل التقوى وأهل المغفرة.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} يوم القيامة، حيث قال: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ}.. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظالمين} المشركين يوم القيامة {مُشْفِقِينَ} وجلين. {مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي نازل بهم لا محالة. {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}


{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}
{ذَلِكَ الذي} ذكرت من نعيم الجنّات. {يُبَشِّرُ الله} به. {عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنّهم أهله.
{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس في يديه سعة لذلك، قالت الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله به، وهو ابن اختكم، منوبة به. فقالوا له: يارسول الله إنّك ابن اختنا، وقد هدانا الله على يديك، وتنوبك نوائب وحقوق، ولست لك عندها سعة، فرأينا أن نجمع لك من أموالنا، فنأتيك به، فتستعين به على ما ينوبك وها هو ذا، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمّداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يحثهم على مودته، ومودّة أقربائه، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية والتنزيل؛ لأنّ هذه السورة مكّية، واختلف العلماء في معنى الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه بقراءتي عليه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا أبو بكر الأزدي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قزعة بِن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات والهدى أجراً إلاّ أن تودّوا الله تعالى، وتقرّبوا إليه بطاعته».
وإلى هذا ذهب الحسن البصري، فقال: هو القربى إلى الله تعالى، يقول إلاّ التقرب إلى الله تعالى والتودّد إليه بالطاعة والعمل الصالح، وروى طاووس والشعبي والوالبي والعوفي عن ابن عباس، قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وبين رسول الله وبينهم قرابة، فلما كذّبوه وأبوا أن يبايعوه، أنزل الله تعالى، {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} يعني أن تحفظوني وتودّوني وتصلوا رحمي، فقال رسول الله: «إذا أبيتم أن تبايعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم ولا تؤذوني، فإنّكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني».
وإليه ذهب أبو مالك وعكرمة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وقتادة، وقال بعضهم: معناه إلاّ أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب.
ثمّ اختلفوا في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذين أمر الله تعالى بمودتهم. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الثقفي العدل، حدثنا برهان بن علي الصوفي، حدثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، حدثنا حرب بن الحسن الطحان، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} قالوا: يارسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟
قال: «علي وفاطمة وأبناءهما»، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو منصور الجمشاذي، قال: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر بن مالك، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عائشة، حدثنا إسماعيل بن عمرو، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد النّاس لي». فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمالنا، وذريتنا خلف أزواجنا وشيعتنا من ورائنا».
حدثنا أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد، حدثنا أبو العباس محمد بن همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن رزين، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا حماد بن سلمة ابن أخت حميد الطويل، عن علي بن زيد بن جدعان، عن شهر بن حوشب، عن أُمّ سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال لفاطمة: «أئتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فالقى عليهم كساءً فدكيا، ثمّ رفع يديه عليهم، فقال: اللَّهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، فإنك حميد مجيد». قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فاجتذبه وقال: «إنّك على خير».
وروى أبو حازم عن أبي هريرة، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم».
أخبرنا عقيل بن محمّد، أخبرنا المعافا بن زكريا بن المبتلي، حدثنا محمّد بن جرير، حدثني محمّد بن عمارة، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا الصياح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم، قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق، وقام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟
قال: نعم. قال: قرأت أل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ أل حم. قال: ما قرأت {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى}. قال: وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
أخبرنا الحسين بن العلوي الوصي، حدثنا أحمد بن علي بن مهدي، حدثني أبي، حدثنا علي بن موسى الرّضا، حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثنا أبي جعفر بن محمد الصادق، قال: كان نقش خاتم أبي محمد بن علي: ظنّي بالله حسن وبالنبي المؤتمن وبالوصي ذي المنن والحسين والحسن. أنشدنا محمد بن القاسم الماوردي، أنشدني محمد بن عبد الرّحمن الزعفراني، أنشدني أحمد بن إبراهيم الجرجاني، قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه:
إن كان حبّي خمسة *** زكت بهم فرائضي
وبغض من عاداهم *** رفضاً فإنّي رافضي
وقيل: هم ولد عبد المطلب. يدلّ عليه ما حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، حدثنا أبو الحسن المحمودي، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الأرسابندي حدثنا هَديَّة بن عبد الوهّاب، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن زياد اليمامي، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنّة، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي».
علي بن موسى الرضا: حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه غداً إذا لقيني في يوم القيامة».
وقيل: الّذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الّذين لم يقترفوا في جاهلية ولا إسلام. يدل عليه قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الأنفال: 41]، وقوله: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الحشر: 7].
وقوله: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
أخبرنا عقيل بن محمّد أجازة، أخبرنا أبو الفرج البغدادي، حدثنا محمّد بن جدير، حدثنا أبو كرير، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلم حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا فكأنهم مخزوك، فقال ابن عباس أو العباس: شل عبد السلم لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم. فقال: «يامعشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟». قالوا: بلى يارسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟». قالوا: بلى يارسول الله. قال: «أفلا تجيبوني؟». قالوا: ما نقول يارسول الله؟. فقال: «ألا تقولون، ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذّبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك؟».
قال: فما زال يقول حتّى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله تعالى ولرسوله. قال: فنزلت {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى}.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، حدثنا عبيد بن شريك البزاز، حدثنا سلمان بن عبد الرّحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يحيى بن بشير الأسدي، عن صالح بن حيان الفزاري عبد الله بن شداد بن الهاد عن العباس ابن عبد المطلب إنّه، قال: يارسول الله مابال قريش يلقى بعضهم بعضاً بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة، تعني باسرة عابسة، فقال رسول الله عليه السلام: «أَوَ يفعلون ذلك؟». قال: نعم، والّذي بعثك بالحقّ. فقال: «أمّا والّذي بعثني بالحقّ، لا يؤمنوا حتّى يحبّوكم لي».
وقال قوم: هذه الآية منسوخة فإنّما نزلت بمكّة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم فيها بمودة رسول الله وصلة رحمه. فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار وعزروه ونصروه أحبّ الله تعالى أن يلحقه بأخوانه من الأنبياء عليهم السلام حيث قالوا: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109]، فأنزل الله تعالى عليه {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [سبأ: 47]، فهي منسوخة بهذه الآية وبقوله: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86]، وقوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104]، وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72]، وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40] وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل.
وهذا قولٌ غير قوي ولا مرضي، لأنّ ما حكينا من أقاويل أهل التأويل في هذه الآية لا يجوز أن يكون واحد منها منسوخاً، وكفى فتحاً بقول من زعم إنّ التقرب إلى الله تعالى بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ.
والدليل على صحة مذهبنا فيه، ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمّد بن علي بن الحسين البلخي، حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق، حدثنا محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا يعلي بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حبِ آلِ محمّد مات شهيد، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكراً ونكيراً، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله تعالى زوار قبره ملائكة الرحمن، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة. ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألاّ ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة».
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} يكتسب طاعة. {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} بالضعف. {إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ}. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا الحكم بن طهر، عن السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}، قال: المودة لآل محمّد صلى الله عليه وسلم.

1 | 2 | 3